الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أَيْ عَنْ ثَنَايَا مِثْلِ حَبِّ الْبَرَدِ الذَّائِبِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: وَزَعَمَ الْجَلَالُ أَنَّهَا زَائِدَةٌ انْتِصَارًا لِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا مَجِيءَ الْكَافِ بِمَعْنَى مِثْلِ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ كَمَا يَلِيقُ بِبَلَاغَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا عَلَى الْأَوَّلِ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ تَحْكِيمَ مَذَاهِبِهِمُ النَّحْوِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَمُحَاوَلَةَ تَطْبِيقِهِ عَلَيْهَا- وَإِنْ أَخَلَّ ذَلِكَ بِبَلَاغَتِهِ- جَرَاءَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ النَّحْوُ وُجِدَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فَلَيْتَهُ لَمْ يُوجَدْ، وَالْقَرْيَةُ- بِالْفَتْحِ-: الضَّيْعَةُ وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ، وَأَصْلُ مَعْنَى الْمَادَّةِ: الْجَمْعُ، وَمِنْهُ قَرْيَةُ النَّمْلِ الْمُجْتَمِعُ تُرَابُهَا، وَيُعَبَّرُ بِالْقَرْيَةِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَالْخَاوِيَةُ: الْخَالِيَةُ، يُقَالُ: خَوَى الْمَنْزِلُ خَوَاءً، وَخَوَى بَطْنُ الْحَامِلِ، وَقِيلَ: يَعْنِي سَاقِطَةً؛ مِنْ خَوَى النَّجْمُ إِذَا سَقَطَ، وَالْعُرُوشُ: السُّقُوفُ، وَيَتَسَنَّهُ: يَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ السِّنِينَ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ السَّنَهِ، فَهَاؤُهُ أَصْلِيَّةٌ يُقَالُ سَنِهَ كَتَعِبَ أَتَتْ عَلَيْهِ السُّنُونَ، وَتَسَهَّنَتِ النَّخْلَةُ: أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَتَسَنَّهَ الطَّعَامُ: تَكَرَّجَ وَتَعَفَّنَ لِطُولِ الزَّمَنِ، أَوْ أَصْلُهُ تَسَنَّى أَوْ تَسَنَّنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ ونُنْشِزُهَا بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، مِنْ أَنْشَزَهُ إِذَا رَفَعَهُ، و{نَنْشُرُهَا}- بِالرَّاءِ- نُقَوِّيهَا، وَمِنْهُمَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ «لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ».التَّفْسِيرُ:قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُلَخَّصُهُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ أَوِ الْأَنْبِيَاءِ.وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُؤَيَّدُ بِآيَاتِ اللهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، مَثَلٌ لِهِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ إِبْرَاهِيمَ مَعَ ذَلِكَ الْكَافِرِ. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قِصَّةِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ وَرَدَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْجِيبِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ مِثْلِهِ أَلَّا يَقَعَ، وَهَذَا- وَإِنْ كَانَ عَجِيبًا- لَا يَصِحُّ إِنْكَارُ وُقُوعِهِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ- وَهُوَ مُؤْمِنٌ- فَيَطْلُبُ الْمَخْرَجَ بِالْبُرْهَانِ، فَيَهْدِيهِ اللهُ إِلَيْهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَالسُّلْطَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبْهَةِ وَالْحَيْرَةِ إِلَى نُورِ الْبُرْهَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ. وَقَدْ قَدَّرُوا هُنَا أَرَأَيْتَ لِإِثْبَاتِ التَّعْجِيبِ دُونَ الْإِنْكَارِ، أَيْ أَوْ أَرَأَيْتَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ مِثْلَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ فِي إِلْمَامِ ظُلْمَةِ الشُّبْهَةِ بِهِ. وَإِخْرَاجِ اللهِ إِيَّاهُ مِنْهَا إِلَى النُّورِ، وَقَدْ أَبْهَمَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْمَارَّ وَهَذِهِ الْقَرْيَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَهَا وَأَصْحَابَهَا، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ تُقَرِّرُ الْحُجَّةُ حَتَّى لَا يَشْغَلَ الْقَارِئَ أَوِ السَّامِعَ عَنْهَا شَاغِلٌ، فَهُوَ مِنَ الِاخْتِصَارِ الْبَلِيغِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَبْحَثُوا عَنْهَا وَعَمَّنْ مَرَّ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا قَرْيَةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي مَرَّ أَرْمِيَاءُ، وَقِيلَ: الْعُزَيْرُ؛ رَجْمًا بِالْغَيْبِ أَوْ تَسْلِيمًا لِلْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.وَقَوْلُهُ: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} مَعْنَاهُ: وَهِيَ خَالِيَةٌ مِنَ السُّكَّانِ وَاقِعَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، فَقَوْلُهُ: عَلَى عُرُوشِهَا خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِخَاوِيَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، أَيْ سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَهِيَ الْخَاوِيَةُ مِنَ السُّكَّانِ وَقَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: إِذَا نُزِعَتِ الْقَوَائِمُ سَقَطَتِ الْعُرُوشُ، وَالْحَالُ تَأْتِي مِنَ النَّكِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَأَوْقَعَ الْمُفَسِّرِينَ فِي التَّعَسُّفِ فِي التَّأْوِيلِ وَاخْتِيَارِ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ عَلَى الْحَالِ الْمُفْرَدِ لِتَمْثِيلِ حَالِ الْقَرْيَةِ فِي النَّفْسِ بِذِكْرِ ضَمِيرِهَا، وَإِسْنَادِ خَاوِيَةٍ إِلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى قَرْيَةٍ خَاوِيَةٍ لَمَا أَفَادَ هَذَا التَّمْثِيلُ.قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ وَيَعُدُّهُ غَرِيبًا لَا يَكَادُ يَقَعُ فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالُوا: مَعْنَاهُ أَلْبَثَهُ مِائَةَ عَامٍ مَيِّتًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْتَ يَكُونُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مِنَ الْمَوْتِ مَا يَمْتَدُّ زَمَنًا طَوِيلًا، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ فَقْدِ الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ وَالْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ الْبَدَنَ بِالْمَرَّةِ، وَهُوَ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْكَهْفِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ تَعَالَى بِالضَّرْبِ عَلَى الْآذَانِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السَّمْعَ آخَرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ إِدْرَاكِ مَنْ أَخَذَهُ النَّوْمُ أَوِ الْمَوْتُ، وَهَذَا الْمَوْتُ أَوِ الضَّرْبُ عَلَى الْآذَانِ هُوَ الْمُرَادُ بِالشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [39: 42] وَالْبَعْثُ هُوَ الْإِرْسَالُ؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِتَوَفِّي النَّفْسِ، أَيْ قَبْضِهَا فَزَوَالُهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِرْسَالِهَا وَبَعْثِهَا.وَأَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تُحْفَظُ حَيَاتُهُ زَمَنًا طَوِيلًا يَكُونُ فِيهِ فَاقِدَ الْحِسِّ وَالشُّعُورِ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِالسُّبَاتِ وَهُوَ النَّوْمُ الْمُسْتَغْرِقُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ وَفَاةً، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى مَجَلَّةِ الْمُقْتَطَفِ سَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّهُ قَرَأَ فِي بَعْضِ التَّقَاوِيمِ أَنَّ امْرَأَةً نَامَتْ 5500 يَوْمًا أَيْ بِلَيَالِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنَّ تَسْتَيْقِظَ سَاعَةً مَا فِي خِلَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَسَأَلَ هَلْ هَذَا صَحِيحٌ؟ فَأَجَابَهُ أَصْحَابُ الْمَجَلَّةِ بِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا شَابًّا نَامَ نَحْوَ شَهْرٍ مِنَ الزَّمَانِ ثُمَّ أُصِيبَ بِدَخَلٍ فِي عَقْلِهِ، وَقَرَءُوا عَنْ أُنَاسٍ نَامُوا نَوْمًا طَوِيلًا أَكْثَرُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنْ يَنَامَ إِنْسَانٌ مُدَّةَ 5500 يَوْمًا أَيْ أَكْثَرَ مِنْ 15 سَنَةً نَوْمًا مُتَوَالِيًا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يُصَدِّقُونَ ذَلِكَ. نَعَمْ إِنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَلَكِنَّ الْقَادِرَ عَلَى حِفْظِ الْإِنْسَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، و15 سَنَةً قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ نَهْتَدِ إِلَى سُنَّتِهِ فِي ذَلِكَ، فَلُبْثُ الرَّجُلِ الَّذِي ضُرِبَ عَلَى سَمْعِهِ- هُنَا مَثَلًا- مِائَةً غَيْرُ مُحَالٍ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا فِي التَّسْلِيمِ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّصُّ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَأَخْذِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عِلْمُ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّبَاتِ الطَّوِيلِ الَّذِي لَمْ يَعْهَدْهُ أَكْثَرُهُمْ لِأَجْلِ تَقْرِيبِ إِمْكَانِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَذْهَانِ الَّذِينَ يَعْسُرُ عَلَيْهِمُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يُسْتَبْعَدُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْلُوفٍ، وَمَا هُوَ مُحَالٌ لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ لِذَاتِهِ.قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَيْ لَمْ يَفْسُدْ بِمُرُورِ السِّنِينَ. أَقُولُ: لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا تَعَالَى نَوْعَ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَذَلِكَ الشَّرَابِ وَلابد أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُعَدُّ بَقَاؤُهُ مِائَةَ عَامٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُدِلُّ رَائِيَهَا عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ مِنْ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَإِنَّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَا لَا يَفْسُدُ بِطُولِ السِّنِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} فَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَوْ تَفَتَّتَتْ عِظَامُهُ، فَلَوْلَا طُولُ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْظُرْ كَيْفَ بَقِيَ حَيًّا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ مَنْ يَعْتَنِي بِشَأْنِهِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْعَطْفُ وَلَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ، فَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ فِعْلًا مَحْذُوفًا أَيْ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا مِنَ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ.وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لِنُزِيلَ تَعَجُّبَكَ وَنُرِيَكَ آيَاتِنَا فِي نَفْسِكَ وَطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ وَحِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، فَالْعَطْفُ دَلَّنَا عَلَى الْمَحْذُوفِ الْمَطْوِيِّ دَلَالَةً ظَاهِرَةً وَهَذَا مِنْ لَطَائِفَ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، أَمَّا كَوْنُ مَا رَأَى آيَةً لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ آيَةً لِلنَّاسِ فَهُوَ أَنَّ عِلْمَهُمْ بِمَوْتِهِ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بِحَيَاتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا يَزَالُ شَابًّا وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ قَدْ شَابُوا وَهَرَمُوا، وَقَدْ عَرَفُوهُ وَعَرَفَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ بَدَنَهُ لَمْ يَعْمَلْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُضْنِيهِ وَتُذْهِبُ بِمَاءِ الشَّبَابِ مِنْهُ فَتُهْرِمُهُ، بَلْ حُفِظَتْ لَهُ حَالَتَهُ الَّتِي تُوُفِّيَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ عَلَيْهَا.ثُمَّ قَالَ: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ {نُنْشِرُهَا}- بِالرَّاءِ- مِنَ الْإِنْشَارِ- وَالْبَاقُونَ- بِالزَّايِ- مِنَ الْإِنْشَازِ. قَالَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحِمَارَ مَاتَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ هُنَا عِظَامُهُ، وَمَعْنَى نُنْشِزُهَا نَرْفَعُهَا وَنُرَكِّبُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَمَعْنَى {نُنْشِرُهَا} نُحْيِيهَا، وَلَا مَنْدُوحَةَ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحِمَارَ كَانَ لَا يَزَالُ حَيًّا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِظَامِ جِنْسُهَا.قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُ الْآيَةَ الَّتِي تَكُونُ حُجَّةً خَاصَّةً لِمَنْ رَآهَا نَبَّهَهُ إِلَى الْحُجَّةِ الْعَامَّةِ، وَالدَّلِيلِ الثَّابِتِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَحْتَجَّ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَهُوَ سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ وَإِنْشَاءِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَالْإِنْشَاءُ مَعْنَاهُ: التَّقْوِيَةُ، وَالِانْتِشَارُ مَعْنَاهُ: التَّنْمِيَةُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْمُو يَعْلُو وَيَرْتَفِعُ؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: كَمَا أَطْلَعْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْآيَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَدُلُّكَ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى الْبَعْثِ نَهْدِيكَ إِلَى الْآيَةِ الْكُبْرَى الْعَامَّةِ وَهِيَ كَيْفِيَّةُ التَّكْوِينِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ الْآيَةُ الْعَامَّةُ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [7: 29] وَقَوْلِهِ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [21: 104] وَقَوْلِهِ فِي آيَاتٍ تُبَيِّنُ تَفْصِيلَ كَيْفِيَّةِ الْبَدْءِ: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [23: 14] أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّفْسِيرَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ رضي الله عنه {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِيهَا} مِنَ الْإِنْشَاءِ، وَعِظَامُ الْحِمَارِ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إِنْشَاءٌ جَدِيدٌ، بَلِ الْحِمَارُ نَفْسُهُ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْمُتَبَادَلُ مِنْ قَوْلِهِ: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ثُمَّ مِنْ إِعَادَةِ الْعَامِلِ انْظُرْ عِنْدَ ذِكْرِ آيَةِ إِنْشَازِ الْعِظَامِ وَإِنْشَاءِ الْحَيَوَانِ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِذِكْرٍ جَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ آيَةً. فَهَذَا الْفَصْلُ دَلِيلٌ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنَ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ إِلَى الْآيَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ الْعِظَامُ تُوجَدُ فِي أَوَّلِ الْخِلْقَةِ عَارِيَةً مِنْ لِبَاسِ الْحَيَاةِ، بَلْ قَالَ فَقِيرَةٌ مِنْ مَادَّتِهَا، فَالْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَكْسُوَهَا لَحْمًا يَمُدُّهَا بِالْحَيَاةِ وَيَجْعَلُهَا أَصْلًا لِجِسْمٍ حَيٍّ- قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ الْخِصْبَ وَالْعُمْرَانَ لِلْقَرْيَةِ، كَمَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ مِائَةِ سَنَةٍ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ لُبْثِ الْمَوْتَى أُلُوفًا مِنَ السِّنِينَ، هَكَذَا يُشْبِهُ بَعْضُ أَفْعَالِهِ بَعْضًا.فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ ظَهَرَ وَاتَّضَحَ لَهُ مَا ذُكِرَ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عِلْمًا يَقِينًا مُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ فِي نَفْسِي وَفِي الْآفَاقِ. وَسَأَلَ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ سَائِلٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّكَلُّمِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْهُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ سَامِعٍ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ بَيَانِهِ، أَقُولُ: إِنَّمَا سَأَلَ السَّائِلُ لِأَنَّ الْأُسْتَاذَ جَرَى عَلَى أَنَّ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ صِدِّيقٌ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فَهَذَا التَّكْلِيمُ كَانَ مِنَ الْوَحْيِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْقِصَّةِ لِنَبِيٍّ قُرِّرَتْ بِهِ الْحُجَّةُ هَكَذَا، كَمَا وَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ يَقَعُ فِي نُفُوسِ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَفْكَارِ الصَّحِيحَةِ مَا لَا يَقَعُ فِي نُفُوسِ غَيْرِهِمْ، فَيُعَدُّ مِنْ إِلْهَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ ذَلِكَ، كَإِلْهَامِ أُمِّ مُوسَى مَا أُلْهِمَتْ بِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَحْيِ، وَيُحْكَى عَنْهُ بِمِثْلِ مَا يُحْكَى عَنِ التَّكْلِيمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْقِصَّةُ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَاللهُ أَعْلَمُ.{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.الْمُفْرَدَاتُ: {فَصُرْهُنَّ}- بِضَمِّ الصَّادِ-: أَمِلْهُنَّ، مِنَ الْإِمَالَةِ، وَكَذَلِكَ فَصُرْهُنَّ- بِكَسْرِ الصَّادِ- يُقَالُ: صَارَهُ إِلَيْهِ يَصُورُهُ وَيَصِيرُهُ بِمَعْنَى أَمَالَهُ، وَيُقَالُ: صَارَ الرَّجُلُ إِذَا صَوَّتَ، وَمِنْهُ عُصْفُورٌ صَوَّارٌ، وَصَارَهُ يَصِيرُهُ: قَطَّعَهُ وَفَصَّلَهُ صُوَرًا صُوَرًا، يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَعَ كَسْرِ الصَّادِ وَضَمِّهَا، فَأَمَّا الْكَسْرُ فَمَعْنَاهُ التَّصْوِيتُ، أَيْ صَوَّتَ وَصَاحَ بِهِنَّ، وَأَمَّا الضَّمُّ فَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.التَّفْسِيرُ:هَذَا مِثَالٌ ثَالِثٌ لِوِلَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَهُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْبَعْثِ، وَأَمَّا الْمِثَالُ الْأَوَّلُ- وَهُوَ مُحَاجَّةُ مَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ لِإِبْرَاهِيمَ- فَهُوَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وُجُودِ اللهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ مِثَالٍ وَاحِدٍ فِي إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمِثَالَيْنِ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ أَنَّ مُنْكِرِي الْبَعْثِ أَكْثَرُ مِنْ مُنْكِرِي الْأُلُوهِيَّةِ!! قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} قَالَ الْجُمْهُورُ: التَّقْدِيرُ وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ [7: 74] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَوَرَأَيْتَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ إِلَخْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمِثَالِ الَّذِي قَبْلَهُ بِذِكْرِ الَّذِي مَرَّ عَلَى الْقَرْيَةِ؛ لِأَنَّ فِي سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ فِي سُؤَالِ ذَاكَ، فَصُورَةُ ذَلِكَ صُورَةُ الْإِنْكَارِ وَصُورَةُ هَذَا صُورَةُ الْإِقْرَارِ مَعَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْعِلْمِ. رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى بَدَأَ السُّؤَالَ بِكَلِمَةِ رَبِّ الَّتِي تُفِيدُ عِنَايَتَهُ تَعَالَى بِعَبِيدِهِ وَتَرْبِيَتَهُ لِعُقُولِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ لِتَكُونَ ثَنَاءً وَاسْتِعْطَافًا أَمَامَ الدُّعَاءِ، أَيْ أَرِنِي بِعَيْنِي كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِكَ لِلْمَوْتَى، وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا إِلَّا بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي فَهْمِ الْكَلَامِ قَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مِنَ الْمَسْئُولِ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ حُذِفَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْهَمْزَةُ لِدَلَالَةِ الْعَطْفِ عَلَيْهِ، وَقَدَّرُوا لَهُ أَلَمْ تَعْلَمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَقْرَبَ أَنْ يُقَدَّرَ: أَلَمْ يُوحَ إِلَيْكَ وَلَمْ تُؤْمِنْ بِذَلِكَ؟ قَالَ بَلَى أَيْ قَدْ أَوْحَيْتَ إِلَيَّ فَآمَنْتُ وَصَدَّقْتُ بِالْخَبَرِ، وَلَكِنْ تَاقَتْ نَفْسِي لِلْخَبَرِ. وَالْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ هَذَا السِّرِّ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بِالْعِيَانِ بَعْدَ خَبَرِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ.وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} وَهُوَ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ وَيَقِينِهِ إِرْشَادًا إِلَى مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنَّ يَقِفَ عِنْدَهُ وَيَكْتَفِيَ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ بِهَذَا السِّرِّ الْإِلَهِيِّ وَالتَّسْلِيمِ فِيهِ لِخَبَرِ الْوَحْيِ وَدَلَائِلِهِ وَأَمْثَالِهِ هُوَ مُنْتَهَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَوْ كَانَ وَرَاءَ الْإِيمَانِ وَالتَّسْلِيمِ مَطْلَعٌ لِنَاظِرٍ لَبَيَّنَهُ اللهُ لَكَ، وَفِي هَذَا الْإِرْشَادِ لِخَلِيلِ الرَّحْمَنِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً وَمَنْعٌ لَهُمْ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ وَإِشْغَالِ نُفُوسِهِمْ بِمَا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَلَا يَلِيقُ بِهِمُ الْبَحْثُ عَنْهُ.وَقَدْ فَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَانَ قَلِقًا مُضْطَرِبًا فِي اعْتِقَادِهِ بِالْبَعْثِ وَذَلِكَ شَكٌّ فِيهِ، وَمَا أَبْلَدَ أَذْهَانَهُمْ وَأَبْعَدَ أَفْهَامَهُمْ عَنْ إِصَابَةِ الْمَرْمَى، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» أَيْ أَنَّنَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّهِ كَمَا نَقْطَعُ بِعَدَمِ شَكِّنَا أَوْ أَشَدَّ قَطْعًا، نَعَمْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْعِرُ، بِالشَّكِّ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ إِيمَانًا يَقِينِيًّا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهَا وَيَوَدُّ لَوْ يَعْرِفُهَا، فَهَذَا التِّلِغْرَافُ الَّذِي يَنْقُلُ الْخَبَرَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْغَرْبِ فِي دَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يُوقِنُ بِهِ كُلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ بَلَدٍ يُوجَدُ فِيهِ، وَيَقِلُّ فِيهِمُ الْعَارِفُ بِكَيْفِيَّةِ نَقْلِهِ لِلْخَبَرِ بِهَذَا السُّرْعَةِ، أَفَيُقَالُ فِيمَنْ طَلَبَ بَيَانَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ إِنَّهُ شَاكٌّ بِوُجُودِ التِّلِغْرَافِ؟ طَلَبَ الْمَزِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالرَّغْبَةِ فِي اسْتِكْنَاهِ الْحَقَائِقِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ مِمَّا فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانَ، وَأَكْمَلُ النَّاسِ عِلْمًا وَفَهْمًا أَشَدُّهُمْ لِلْعِلْمِ طَلَبًا وَلِلْوُقُوفِ عَلَى الْمَجْهُولَاتِ تَشَوُّفًا، وَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَقَتْلِ كُلِّ مَوْجُودٍ فِقْهًا وَفَهْمًا، وَقَدْ كَانَ طَلَبُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِعَيْنَيْهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَهُوَ طَلَبٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ فِيمَا تَنْزِعُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ الْقُدْسِيَّةُ مِنْ مَعْرِفَةِ خَفَايَا أَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ. لَا طَلَبٌ فِي أَصْلِ عَقْدِ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ الَّذِي عَرَفَهُ بِالْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ دُونَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ.قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قَرَأَ حَمْزَةُ {فَصِرْهُنَّ}- بِكَسْرِ الصَّادِ- وَالْبَاقُونَ- بِضَمِّهَا- مَعَ تَخْفِيفِ الرَّاءِ فِيهِمَا، وَمَعْنَاهُ: أَمِلْهُنَّ وَضُمَّهُنَّ إِلَيْكَ. وَقِيلَ مَعْنَى قِرَاءَةِ- الْكَسْرِ- فَقَطِّعْهُنَّ، وَلَكِنَّهُ إِذَا كَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّى بإِلَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَقُرِئَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: إِنَّهُ قَطَّعَهُنَّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حِكْمَةِ اخْتِيَارِ الطَّيْرِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَقَالَ الرَّازِّيُّ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الطَّيْرَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَأَجْمَعُ لِخَوَاصِّ الْحَيَوَانِ، وَلِسُهُولَةٍ تَأَتِّي مَا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ التَّقْطِيعِ وَالتَّجْزِئَةِ.وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الطَّيْرَ أَكْثَرُ نُفُورًا مِنَ الْإِنْسَانِ فِي الْغَالِبِ، فَإِتْيَانُهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ أَبْلَغُ فِي الْمَثَلِ، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي تَفْسِيرِ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي أَنْوَاعِهَا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَتَكَلَّمُوا فِي أَرْبَعَةٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ الْمُوَافِقُ لِعَدَدِ الطَّبَائِعِ، أَوْ لِعَدَدِ الرِّيَاحِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ أَرْبَعَةً لِيَضَعَ فِي كُلِّ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ بَعْضَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ، وَمَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى التَّفْوِيضِ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَاصِمٍ جُزُؤًا- بِضَمِّ الزَّايِ- حَيْثُ وَقَعَ، وَالْبَاقُونَ- بِسُكُونِهَا- وَهُمَا لُغَتَانِ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى جَزِّئْهُنَّ، وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَرَوَوْا أَنَّهُ ذَبَحَ الطُّيُورَ وَنَتَفَهَا وَقَطَّعَهَا أَجْزَاءً وَخَلَّطَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، وَلَا يَدُلُّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا أَيِ ادْعُ الطُّيُورَ يَأْتِينَكَ مُسْرِعَاتٍ طَيَرَانًا وَمَشْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَهُوَ بِعِزَّتِهِ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَبِحِكْمَتِهِ قَدْ جَعَلَ أَمْرَ الْإِعَادَةِ مُوَافِقًا لِحِكْمَةِ التَّكْوِينِ.مُلَخَّصُ مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، فَأَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَأْخُذَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَيُقَطِّعَهُنَّ أَجْزَاءً يُفَرِّقُهَا عَلَى عِدَّةِ جِبَالٍ هُنَاكَ، ثُمَّ يَدْعُوهَا إِلَيْهِ فَتَجِيئُهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْمُفَسِّرُ الشَّهِيرُ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا كَلُّ أَمْرٍ يُقْصَدُ بِهِ الِامْتِثَالُ، فَإِنَّ مِنَ الْخَبَرِ مَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لاسيما إِذَا أُرِيدَ زِيَادَةُ الْبَيَانِ، كَمَا إِذَا سَأَلَكَ سَائِلٌ كَيْفَ يُصْنَعُ الْحِبْرُ مَثَلًا؟ فَتَقُولُ خُذْ كَذَا وَكَذَا وَافْعَلْ بِهِ كَذَا وَكَذَا يَكُنْ حِبْرًا. وَتُرِيدُ هَذِهِ كَيْفِيَّتُهُ وَلَا تَعْنِي تَكْلِيفَهُ صُنْعَ الْحِبْرِ بِالْفِعْلِ. قَالَ: وَفِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا مَثَلٌ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَمَعْنَاهُ خُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَضُمَّهَا إِلَيْكَ وَآنِسْهَا بِكَ حَتَّى تَأْنَسَ وَتَصِيرَ بِحَيْثُ تُجِيبُ دَعْوَتَكَ، فَإِنَّ الطُّيُورَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانِ اسْتِعْدَادًا لِذَلِكَ، ثُمَّ اجْعَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ ادْعُهَا فَإِنَّهَا تُسْرِعُ إِلَيْكَ لَا يَمْنَعُهَا تَفَرُّقُ أَمْكِنَتِهَا وَبُعْدُهَا مِنْ ذَلِكَ. كَذَلِكَ أَمْرُ رَبِّكَ إِذَا أَرَادَ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى يَدْعُوهُمْ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ كُونُوا أَحْيَاءً فَيَكُونُوا أَحْيَاءً كَمَا كَانَ شَأْنُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، إِذْ قَالَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. هَذَا مَا نُجْلِي بِهِ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ الرَّازِّيُّ مُخْتَصَرًا. وَقَالَ: وَالْغَرَضُ مِنْهُ ذِكْرُ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ فِي عَوْدِ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ وَأَنْكَرَ- يَعْنِي أَبَا مُسْلِمٍ- الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَقَطِّعْهُنَّ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ فِي قَوْلِهِ: فَصُرْهُنَّ أَمِلْهُنَّ، وَأَمَّا التَّقْطِيعُ وَالذَّبْحُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَانَ إِدْرَاجُهُ فِي الْآيَةِ إِلْحَاقًا لِزِيَادَةٍ بِالْآيَةِ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.وَالثَّانِي أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ب {صُرْهُنَّ} قَطِّعْهُنَّ لَمْ يَقُلْ إِلَيْكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِهَذَا الْحَرْفِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْإِمَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ فَخُذْ إِلَيْكَ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ؟ قُلْنَا: الْتِزَامُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُلْجِئٌ إِلَى الْتِزَامِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ.وَالثَّالِثُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ ادْعُهُنَّ عَائِدٌ إِلَيْهَا لَا إِلَى أَجْزَائِهَا وَإِذَا كَانَتِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً مُتَفَاصِلَةً وَكَانَ الْمَوْضُوعُ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ بَعْضَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ- يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ لَا إِلَيْهَا وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. وَأَيْضًا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يَأْتِينَكَ سَعْيًا عَائِدٌ إِلَيْهَا إِلَى أَجْزَائِهَا. وَعَلَى قَوْلِكُمْ إِذَا سَعَى بَعْضُ الْأَجْزَاءِ إِلَى بَعْضٍ كَانَ الضَّمِيرُ فِي يَأْتِينَكَ عَائِدًا إِلَى أَجْزَائِهَا لَا إِلَيْهَا.وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ بِوُجُوهٍ:الْأَوَّلُ أَنَّ كُلَّ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ ذَبْحُ تِلْكَ الطُّيُورِ وَتَقْطِيعُ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ إِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارًا لِلْإِجْمَاعِ.وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْغَيْرِ.وَالثَّالِثُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُ اللهُ كَيْفَ يُحْيِي الْمَوْتَى. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ. وَعَلَى قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ لَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ فِي الْحَقِيقَةِ.وَالرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُ: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الطُّيُورَ جُعِلَتْ جُزْءًا جُزْءًا. قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ: إِنَّهُ أَضَافَ الْجُزْءَ إِلَى أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجُزْءِ هُوَ الْوَاحِدُ مِنْ تِلْكَ الْأَرْبَعَةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْجُزْءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَظْهَرُ. وَالتَّقْدِيرُ فَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا أَوْ بَعْضًا. انْتَهَى كَلَامُ الرَّازِّيِّ.آيَةٌ فَهْمِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ فِيهَا خِلَافَ مَا فَهِمَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَبْلِهِ. وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ فَهْمَ فِئَةٍ مِنَ النَّاسِ حُجَّةٌ عَلَى فَهْمِ الْآخَرِينَ، عَلَى أَنَّ مَا فَهِمَهُ أَبُو مُسْلِمٍ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَمَا قَالُوهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِوَايَاتٍ حَكَّمُوهَا فِي الْآيَةِ، وَلِآيَاتِ اللهِ الْحُكْمُ الْأَعْلَى، وَعَلَى مَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَدُلُّ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِبْرَاهِيمَ فَلَا يَكُونُ فِيهِ مَزِيَّةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ هَذَا الْمِثَالَ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ اللهِ لِلْمَوْتَى أَوْ لِكَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ: فِيهِ تَوْشِيحٌ لَهَا وَتَحْدِيدٌ لِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُ الْبَشَرِ مِنْ أَسْرَارِ الْخَلِيقَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ كَانَ عَامًا فِي النَّاسِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ فِيهِ لِإِبْرَاهِيمَ، عَلَى أَنَّهُ يَرِدُ مِثْلُ هَذَا الْإِيرَادِ عَلَى حُجَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى الَّذِي آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ، وَحُجَّتِهِ عَلَى عَبَدَةِ الْكَوَاكِبِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَجِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا إِبْرَاهِيمَ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الرَّازِّيُّ وَغَيْرُهُ. فَهَلْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ هِدَايَةً مِنَ اللهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِخْرَاجًا مِنْ ظُلُمَاتِ الشُّبَهِ الَّتِي كَانَتْ مُحِيطَةً بِأَهْلِ زَمَنِهِ إِلَى نُورِ الْحَقِّ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [6: 83] الْآيَةَ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ إِجَابَةَ إِبْرَاهِيمَ إِلَى مَا سَأَلَ لَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فَالْأَمْرُ بِعَكْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ إِتْيَانَ الطُّيُورِ بَعْدَ تَقْطِيعِهَا وَتَفْرِيقِ أَجْزَائِهَا فِي الْجِبَالِ لَا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ الْإِحْيَاءِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا رُؤْيَةُ الطُّيُورِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّقْطِيعِ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ فِي الْجِبَالِ الْبَعِيدَةِ. وَافْرِضْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا قُتِلَ وَقُطِّعَ إِرْبًا إِرْبًا ثُمَّ رَأَيْتَهُ حَيًّا أَفَتَقُولُ حِينَئِذٍ: إِنَّكَ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ إِحْيَائِهِ؟ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ فَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ الْبَشَرُ مِنْ سِرِّ التَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَهُوَ تَوْضِيحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى بَيَّنَ لَنَا ذَلِكَ- بِمَا حَكَاهُ عَنْ خَلِيلِهِ- لَجَازَ أَنَّ يَطْمَعَ فِي الْوُقُوفِ عَلَى سِرِّ التَّكْوِينِ الطَّامِعُونَ، وَلَوْ فَهِمَ الرَّازِّيُّ هَذَا لَمَا قَالَ: إِنَّهُ لَا خُصُوصِيَّةَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى الْغَيْرِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْجَوَابِ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ مُوسَى إِذْ طَلَبَ رُؤْيَةَ اللهِ تَعَالَى، وَمِنْ جَوَابِ السَّائِلِينَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَأَوْضَحُ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا وَنَهَى عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ تَفْسِيرَ أَبِي مُسْلِمٍ لِلْآيَةِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظْمُ، وَهُوَ الَّذِي يُجَلِّي الْحَقِيقَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ كَيْفِيَّةَ الْإِحْيَاءِ هِيَ عَيْنُ كَيْفِيَّةِ التَّكْوِينِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ بِتَعَلُّقِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى بِالشَّيْءِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكَلِمَةِ التَّكْوِينِ كن فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ الْبَشَرُ إِلَى كَيْفِيَّةٍ لَهُ إِلَّا إِذَا أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَى كُنْهِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَشْيَاءِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ- أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَصِفَاتُ اللهِ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ فِيهَا هُوَ الْإِدْرَاكُ وَهُوَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ رحمه الله تعالى. وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ فِي النَّظْمِ الْمُحْكَمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْعَلْ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي الَّذِي يَقْتَضِيهِ إِمَالَةُ الطُّيُورِ وَتَأْنِيسُهَا عَلَى أَنَّ لَفْظَ صُرْهُنَّ يَدُلُّ عَلَى التَّأْنِيسِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَقَطِّعْهُنَّ وَاجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْإِمَالَةِ إِلَيْهِ وَيَعْطِفْ جَعْلَهَا عَلَى الْجِبَالِ بثم. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا خَتْمُ الْآيَةِ بِاسْمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ دُونَ اسْمِ الْقَدِيرِ. وَالْعَزِيزُ: هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يُنَالُ. وَمَا صَرَفَ جُمْهُورَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى وُضُوحِهِ إِلَّا الرِّوَايَةُ بِأَنَّهُ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ طُيُورٍ مِنْ جِنْسِ كَذَا وَكَذَا وَقَطَّعَهَا وَفَرَّقَهَا عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا، ثُمَّ دَعَاهَا فَطَارَ كُلُّ جُزْءٍ إِلَى مُنَاسِبِهِ حَتَّى كَانَتْ طُيُورٌ تُسْرِعُ إِلَيْهِ؛ فَأَرَادُوا تَطْبِيقَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا وَلَوْ بِالتَّكَلُّفِ. وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَهَمُّهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ خَصَائِصُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ وَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْإِخْرَاجِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَهُوَ أَكْبَرُ الْآيَاتِ، وَلِكُلِّ أَهْلِ زَمَنٍ غَرَامٌ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يَتَحَكَّمُ فِي عُقُولِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ فَهْمَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنْ يَتَجَرَّدَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِكُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ الْحَاكِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي مُسْلِمٍ مَا أَدَقَّ فَهْمَهُ وَأَشَدَّ اسْتِقْلَالَهُ فِيهِ. اهـ.
|